martes, 2 de octubre de 2007

الشرخ اللساني في المجتمع المغاربي/ خوان غويتصولو/ ترجمة مزوار الادريسي

الشرخ اللساني

في المجتمع المغاربي

خوان غويتيصولو

ترجمة: مزوار الإدريسي

أسالتِ الدعوى القضائية الأخيرةُ ضد أحمد بنشمسي- مدير الجريدتين الأسبوعيَّتين المغربيَّتين" نيشان" و" طِلْ كِلْ"، نتيجة لنشر الأولى رسالةً مفتوحة إلى الملك محمد السادس- الكثيرَ من المدادِ وتسبَّبت في جدال داخلَ بلده وخارجه. ودُونَ أنْ ندخلَ قي تقييمه للنظام الدستوري المغربي، فإنني سأكتفي بعرض بعض الاعتبارات بصدد اللغة التي كُتِبَ بها: الدارجة، المسمَّاة تفضُّلا من قِبَلِ المتضلِّعين و" القوى الحية" بالدارجة المغربية المحلية، حتى لا نقول " العامية".

ويحضرني سؤال عاجل: أيُمكِنُ أن تكونَ" رعاعيَّةً"، أو" خشنة" فقط، لغةٌ يتكلَّمها 99% من الساكنة المغاربية، في المغرب مثلما في الجزائر؟ لا أعتقد ذلك، وتسمح لي معرفتي بالبلدين الكبيرين بالشمال الإفريقي، التي تعود إلى عقود من الزمان، بأن أُقدِّر إبداعيتها الثابتة في الحقل الشفاهي الشعبي كما في تجلّياتها الموسيقيَّة، والمسرحية، والفنية. وكما هو الشأن مع اللغات اللاتينية الجديدة في العصور الوسطى السحيقة- القشتالية، والكطلانية، والبرتغالية، والإيطالية، والفرنسية، إلخ- فإنها شرعت في الانفصال عن لونها، أي العربية الفصحى، دون أن تتخلى بسبب ذلك عن جذورها، مضيفةً إليها عناصر من لغات أخرى- الأمازيغية، والأندلسية، والفرنسية، والإسبانية- ضمن تهجين مستمر وطفرةٍ، هي بالنسبة لشخص مثلي مولع بسَفَرِ الكلمات، حافز يومي على النشاط والإعجاب. إنها لغة ذات أهلية تمثيلية تقتضي أن تثير الحسد، فهي تلعب بمختلف سجلات الكلام، وتبتكر تعابير وكلمات، وتخلق أمثالا ونكتا وقصصا في متناول جماع الشعب تقريبا، أَمْتَلِكُ مختارات طيبة منها، فيها دليل واضح على ظرف وتأثرية غير قادرين على التعبير عن ذاتيهما بالعربية التي تكتبها وتقرؤها أقليَّةٌ فحسب، لكنَّها لا تتكلَّمها.

هذه اللغة الشعبية- التي تُنْعَت تحقيرا بالمبتذلة- تُدْمِجُ بِسَعَادةٍ مُخْتَلِفَ المكوِّنات التي لدى هويات معقَّدة، مثلما هو عليه أمر الهوية المغربية والجزائرية، التي هي هوية عربية وفي الوقت ذاته بربرية، تُغْنيها الإضافات اللغوية للمستعمرين القدامى، ذلك أن تغَيُّر الأطوار بين اللغة الراقية والمتكلَّم بها يؤثر في كل أنظمة الحياة الاجتماعية والساياسية والثقافية. حقيقةً، كيف يمكن أن تُكْتَبَ رواية أو مسرحية تزهو بوصف المجال الحضري أو القروي للمغرب أو الجزائر اليومَ بلغة لا يتكلَّمها أحد؟ مثل هذه الصعوبة تفسر لماذا بعد نصف قرن من الاستقلال لا يزال عدد كبير من كُتَّاب البلدين يعبرون بالفرنسية، وهي اللغة التي تُتَعلَّم في المدرسة، وليس باللغة هي الأم. إن الحماس للربح والبروز في سوق النشر الأوربي لا يوضَّحُ أمر الظاهرة المذكورة، ثم إنَّ اللغة المغربية والجزائرية المتكَلَّم بهما ليستا العربية الرسمية المكرَّسة من قِبَلِ دستور البلديْن كليهما. ووعيًا بذلك، انتقل كاتب كبير مثل كاتب ياسين في آخر أعوام حياته من الفرنسية التي ألَّف بها روايته الجميلة" نجمة" إلى دارجة بلده، غيرَ عابئ بالاستهجان الحانق للمتضلِّعين في اللغة ولزمرة العسكريين، الساسة ورجال المال المستأثرين بالسلطة منذ 1965.

ما حدث في الجزائر أثناء عقد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مع سياسة التعريب المفروضة من قِبَلِ بومدين- السياسة المؤسسة على وهم الوحدة العربية الذي كُذِّب يوميا، والتي كانت موضوعَ نكت فظيعة في المغرب العربي مثلما هو الأمر في مصر- يُبيِّن الفشل الذريع لتلك المحاولة، التي لم تستطع " تربية" ولا تعريب الساكنة التي واصلت التعبير باللغتيْن الدارجة والقبايلية، لكنها أضعفتْ في مقابل ذلك مستوى المعرفة بالفرنسية وزرعت بذور السلفية، عَبْرَ الأساتذة الذين جُنِّدوا من الشرق الأوسط والتي ستنْفُذ، بعد الانقلاب العسكري ضد الانتصار الانتخابي لجبهة الإنقاذ الإسلامية، في إطار فظاعات الحرب الأهلية لسنوات التسعينيات.

أؤكد على أن شعوب المغرب العربي لا يتعرَّفون على ذواتهم في لغة رسمية ذات وقار فارغ، بل على العكس، إنهم يشعرون بها ككابح أو جِماح في طريق تطلُّعهم إلى تعبير ديمقراطي حر، فالدارجة المقصية من المعرفة الأدبية والعلمية ليست لديها أيضا إمكانية الوصول إلى المجال السياسي، اللهم أثناء التجمعات الانتخابية اصطيادا للأصوات. نظير هذا الطلاق ينتهي، مثلما سمعت ذلك يُدان في بعض الملتقيات حول الموضوع، إلى احتقار الذات والانفصام. إنَّ جاد عاشور في مقال له نُشِرَ منذ أعوام في مجلة Transeuropéennes de culture، قمتُ بتكييف عنوانه لعنونة مقالتي هذه، يلخص هذا الجامعي التونسي الوضعية في عبارات تستحق إعادة إنتاجها بإسهاب:

" في الاجتماعات البرلمانية والمنابر السياسية، بما في ذلك، وحتى في الاحتفالات الرسمية، مع بعض الاستثناء، تتحوَّل اللغة إلى قراءة، ذلك أن لا أحد، في أي جزءٍ يكون قادرا على التكلم بالعربية الفصحى. وذاك يعطي اللغة السياسية مظهرا ساخرا ومعلَّبا في لغة خشبية. في السياق المذكور تُرى حرِّية التعبير ممسوسة في العمق، وإن تعويض الكلام بالقراءة يتحوَّل إلى عائق، فبرلمانيُّونا، ومقدِّمو البرامج التلفزية، والرؤساء، والسياسيون، يتبنَّون نبرة ادِّعائية وبلاغية، بحيث أن الأخبار الإذاعية أو التلفزية، وخطابات رؤساء الدول تمر جانبا، دون أن تصل إلى أن تحرك ساكنا لدى الكثير من الشعب، لأن سيَّاسِيّينا لا يتكلمون عموما، إنهم يقرؤون، وإنَّ الخوف من التحدث يُسَبِّبُ ويُفصح عن أن لديهم الخوف من التفكير".

أَمِنَ الْمُمْكِنِ أنْ تستمر إلى ما لا نهاية له حالةُ الأشياءِ هاته؟ أنا أعتقد في العكس، فالشبابُ الذين أتحدَّث معهم لا يتقاسمون الاحتقار الرسمي أو العالِم للغتهم الأم، ثمَّ إن هذه الأخيرة تشق طريقها وئيدا، مثل الأمازيغية، في وسائل الإعلام، ويُتَوَقَّع أن تتوسع كلَّ مرة أكثر، بما أن الهوية المغاربية متعددة ومتحولة- كما هو شأن كل الهويات مهما تقُلِ الدساتير والقوانين الرسمية-، فالدارجة والبربرية الشائعة في الأطلس والقبايل ستترسَّخان أكثر في القريب العاجل في حقل المعرفة والثقافة، مهما كانت عنيدةً مقاومةُ المتعلِّمين والسُّلط المُصْطَنَعَة. جليٌّ إذن، أن العربية الفصحى ستستمر في الميدان الديني وفي دواليب الدولة، لكن التواصل بالمغربية والجزائرية سيشمل مضمون الجرائد، والفضاء المشهدي للسينما والإبداع الأدبي. إنَّ الدفع بشخص مراكشي أو طنجي إلى النطق باللغة المنمذجة للشرق الأوسط يثير وسيثير لا محالة الأثر الصحيَّ للضَّحك، وهذا ميَّز دوما الوجهة التي تسير نحوها الشعوب المتوثبة إلى الحرية والتقدم مهما كانت الحواجز التي تقف في وجهها.

جريدة الباييس

الاثنين 24 سبتمبر 2007