sábado, 20 de octubre de 2007

اللقلاق / مزوار الادريسي

اللَّقْلاق

إلى خوان غويتيصولو

فجأةً، بعد أن أفلح في دس عشرين درهما في جيب حارس الفنار، والصعود إلى قمة منارة " سيدي بوقناديل"، تخيَّلَ حميدٌ نفسَه دي كابريُّو متصدِّرا مقدِّمة طيطانيك، وقد انتصب ملء الزرقة، مُشْرِعا ذراعيْهِ، يستقبل الريح وهي تداعبُ خصلاته الخفيفة. كانت عيناه مسدَّدتين بإحكام صوب جبل طارق وطريفة، يلمع فيهما الحلم مثلما تتلألأ أضواء السيارات بالضفة الأخرى، بَعْدَ أنْ تصل منزلقة على الماء، الذي أوشك أنْ يسوَدَّ، لولا بعض الوميض الزَّبدي عند قدم الرأس البحرية المشرفة على المضيق.

الآنَ حميدٌ سيِّد ذاته، فالهواء الذي يملأ رئتيْه خلَّصه من كابوس البطالة، ومن عبء الوقوف ببوابات الإدارات. خفيف جسدُه، وقصير ما يفصله عن الهدف. أحسَّ بالريش ينبجس من مسامِّه، وتحت إبطيْه، وفي جبينه، وأنه لم يترك جزء من جسده إلا وتدلى منه. باغته التحوُّل الفجائي، وتذَكَّر كافكا والمسخ، فكَّر في مرآة، تطلعُه على حاله، فلم يجد أمامه إلا الماء والصخر. تحسس أنفه، فألْفَاه قد غدا منقارا، أراد أن يصيح " أنا حميد"، فصدرتْ عنه أصوات " طق، طق، طق..." تذكَّر تَوًّا أهزوجة الصِّغَر، حين كان يُردِّدها مع رفاق الحيِّ وهم يتأملُّون طائر اللقلاق، الشهير باسم" بَلَّارِج"، الذي كان يأتي سنويا ليُعمِّرَ الشاهق من الأمكنة، كانوا يُنشِدونه في حبور:

أَبـلارج طَقْ طقَ خَلَّى ولادُه ف طـبَقْ

ومشى يصَّاد الحجل ضْرَب رجلُه بالمنجل

مشى عند عايشة دْ الجبل قال لها داوي لي هاذ الرجل

قالت له: اِمش عند العطار قالها وفَايْن يكون العطار

قالت له مشى جبل طار[1] يجيب الحَنَّا والعكَّار

هذي دْ الدخول هذي دْ الخروج

اللي يزيد على عايشة د الجبل يتقطَّع رِجْله بالمنجل

استبشر خيرا بالتحوُّل إلى لقلاق، وتأكَّد له صدق ما أورده علي باي العباسي، الجاسوس الإسباني في " رحلات عبر المغرب"؛ حين أشار إلى الحظوة التي للقلاق لدى أهل المغرب، وإلى تخصيصهم إيَّاه بمستشفى في مراكش، يُعرفُ " بدار بلارج"، يُعْنى فيه بهذه الطيور، وإلى اعتقادهم في أنها آدميُّون يتحوَّلون إلى طيور عند مغادرتهم لأوطانهم، ثم يعودون إلى هيأتهم فور العودة إليها.

لَحْظَتَها، عَنَّ له أنْ ينطلق عابرا البوغاز، فلا سمسار سيُساومه، ولا موجَ سيَخُضُّه، ولا رَادَار سيكشفه... الفرصة سانحة ليخترق الآفاق في غفلة عن النُّظار. هذه فرصتُكَ يا حميد، أقلُّ من عشر دقائق وتضع الرِّجل بالفردوس المفقود، ها أنتَ عال، وستعلو أكثر، اِنطَلِق...

يندفع حميد مرتميا في الفراغ، ذراعاه خبطتا حثيثا وسريعا كيْ يعلُوَ أكثر، لكنَّهُ تفطَّن إلى أن سقوطه أكيد، ولم يجد وجه شبه بين سقطته " من علُ" وبين بيت امرئ القيس. ارتعدت فرائصه، وأوداجه انتفخت، كانت المدة التي استغرقتها السقطة كافيةً كي يتخيَّل أنه قد شرع يحلق، وأنَّ النوارس التي بالمكان كانت ترافقه في تحليقه. كان حلمُهُ يشدُّه إلى فوق. غويتيصولو أكَّد حكايةَ التحوُّل في" أسابيع الحديقة"، وفي " حدود زجاجية". غويتيصولو لمْ يكذب عليَّ أبدا، غويتيصولو لا يكذب، وإنْ كانَ يُغْضب، عليَّ أن أخْبِطَ أكثر، وألاَّ أكرِّرَ مأساةَ عباس بن فرناس.

فجأةً، يرتطم الجسدُ بالصَّخر والماء. كانت الخضَّة عنيفة، أفقدته الصواب، وإن كانت برودة الماء أنعشت منه اللسان، إذ سمعه الذين دنوا منه ليسعفوه يردِّد غويتيصولو، علي باي... حينئذ عرَفْتُ أنه حضر تقديم " حدود زجاجيَّة" بمعهد ثربانتيس بطنجة، وأنه أصغى لحكاية خوان التي قصَّ فيها واقعةً له مع لقلاق سقط برياض داره بمراكش، فأسعفه إلى أن استردَّ عافيته، وطار.

مزوار الإدريسي



[1] - جبل طارق، وينطق لدى المغاربة " جِبِلْ طَارْ"