domingo, 16 de septiembre de 2007

تداعيا ت/ ماروخا/ مزوار الادريسي/ جريدة القدس العربي

تداعيات

مــاروخا

مزوار الإدريسي

مَارُوخَا أو مَارُوجَا - حسب نُطْق " الداخليَّة"؛ أيْ ساكنةِ المغرب الذي كان يخضع للحماية الفرنسية، وما أصبح يُنْعتُ شعبيًّا بالْعرُوبية- اسمٌ يُحِيلُ تلقائيا على شكولاتة، شوكولاتة كانت ولا تزال تحوي حبَّات من اللوز الحلو، يَلُفُّها ورق معدني فضِّي في الداخل، يغلِّفه ورق خارجيٌّ يغلب عليه اللون الأحمرُ أكثر من الأبيض، تضمها لوحة مستطيلة من قطع ثمانية مستطيلة هي الأخرى، تُسَهِّل على الأمهات تكسيرها، وتوزيعها بالعدل بين الأبناء، وتيسِّر على أصحاب عربات الحلوى المتنقلة والثابتة بيعها بالتقسيط، على مقربة من بوابات المدارس وبالشوارع والحارات، وهناك من الباعة المتجولين من كان يطوف بها في صينية، يدخل بها إلى المقاهي، ويقف بائعا في شتى الأماكن.

ماروخا شوكولاتة كانت تفد على تطوان عبر التهريب من سبتة في الغالب، وكانت عُلبُها الكارتونية تملأ بعض النقط من شوارع المدينة، وخصوصا تلك القريبة من محطة الحافلات، حيث يُعَاد حزْمُها وتصديرها بالتهريب الرَّسمي عبر النقل العمومي إلى أسواق الداخلية.

ولأن مرارة الحياة كانت تستدعي من المغربي أن يبحث عن حلاوة ما، طالما أن أيَّامَه افتقدتْ ومنذ عهد بعيد إلى ما يُحليها، فقد لجأ المغاربة إلى استهلاك ماروخا بشراهة، حتى إن النساء في بيوتهن، والرجال في محلات بيع الحلويات تفننوا في إعداد أصناف من الحلويات -" الباسْطِيلِيس" حسب الإطلاق الإسباني المتداول بين أهل الشمال- التي لم تَخْلُ من ماروخا، قَبْلَ أن تظهر شوكولاته الوزن ذات الشكل البشع، الملفوفة في ورق معدني ذهبي اللون، وقبل ظهور السوبرماركيتات بحلوياتها المستوردة من شتى الأصقاع.

الإقبال على ماروخا حرَّك الرأسمال، هكذا أُنشئتْ شركة بطنجة تنتج الشوكولاتة ذاتها مُلََوَّزة، ملفوفة في الغلاف الأحمر الشهير، مع الحفاظ على الطعم اللذيذ، بالرغم من أن أيادي مغربية تعكف على صنعها. لكن جمهور المقبلين على ماروخا انخفض، ومنْ ظلَّ منهم وفيًّا لها تجدهم يلحون على الباعة في إعطائهم ماروخا المهرَّبة عِوض المصنَّعة محلِّيا، ولا يتورَّعون عن تفحُّص الغلاف للتأكد من المصدر.

غير أن ماروخا التي في ذاكرتي شيء آخر غير الشكولاتة، إنها تلك المرأة صاحبة الطَّكَا؛ وهو الإطلاق الإسباني على الدكان الذي من بين مواد مبيعاته الخمور. سكنت ماروخا بالطَّكا إلى حين رحيلها عن العالم، محلُّها كان بمبتدإ شارع النخيل؛ على يسار قاصد طنجة، عند الانعطافة الأولى بعد مغادرة محطة الحافلات؛ سيدة متوسِّطة الطول، لا يُعرف كيف كانت رِجْلاها النحيفتان تقويان على حمل نصفها الأعلى الجسيم. قسماتها دالة على جمال ولى الأدبار، شيباء الشعر، ذات صوت أجش، تحمل وشما على ذقنها، لم أره على امرأة من قبل في ذات الموضع، لا تفارق السيجارة فمَها والمريولة وسَطَها، وكان الحديث معها بالإسبانية، التي لم تكن تتكلم غيرها، يكلِّفنا نحن الصغارَ الجهد الجهيد.

بعد الدخول إلى الطَّكا يواجهك إطارُ بابٍ داخلية، يتدلى من رافدتها العليا ستارُ حبالٍ رقيقة من عقيق ملوَّن، يحجب عن الزبائن سُلَّما يُفضي إلى فوقُ حيث حانة داخلية شهيرة، يرتادُها في الغالب عُمَّال شركة النقل الإسبانية لَابَالِنْسِيَانَا، الذين كانوا يشرعون في التقاطر عليها بعد الظهر، وإلى غاية ما بعد منتصف الليل طَلَبا للجُعَّة والنبيذ والمازة فوْرَ عبور الستار.

بالطَّكا كانت ماروخا تنهض بدَوْريْن: تبيع المواد الغذائية المتوافرة لديها، وتسقي رواد محلِّها، بينما زوجها المسن كالُّو يعزف على كمانه في خشوع، مضيفا متعة الفن إلى لذة الشراب، وقد أفلح في التخلَّص من ملل التقاعد، بعد أن أمضى العمر مشتغلا لدى شركة بينيط، يُزوِّد الشاحنات بالزيت والبنزين.

عبور الباب وبعدها الستار، كان يقتضي الصعود إلى الطابق الفوقي حيث عالم من الأسرار، تدُلُّ عليها رائحة المازةِ؛ أي أكلِ الطَّابَّا الشهير لدى الإسبان، وهو قطع مصفَّفة أو صحون صغيرة من الطعام المتنوع يصاحب طقس الشراب، ويكون من السمك في الغالب، كانت ماروخا تُعدُّه بمهارة، لدرجة أن ريق زبائن الدكان من غير رواد الحانة الداخلية كان يتحلَّب بمجرد تخطيهم للعتبة داخلين.

الحقيقة أنني لم أكن متأكِّدا إن كانت هي التي تسهر على إعداد الطَّابَّا أَمْ لَلَّافاطمة، الخادمة التي كانت الألسن تلوك أنها الأمُّ الحقيقية لمحمد الروبيو من علاقة غير شرعية مع إسباني، وليس ابن ماروخا، خصوصا وأن الأخيرة كانت قد أشرفت على الستين من عمرها. كما كانت ألسنة أخرى ترجح أن يكون الولد لقيطا، وأن ماروخا ترعاه، وأنْ لا علاقةَ لفاطمة بالروبيو محمد سوى الرعاية التي تفرضها عليها المعاشرة اليومية له، والمحبة التي تولِّدها الألفة.

كنت أعتقد دوما أن نعمة الطَّابَّا هي ما يمكن أن يفسِّر قوَّة محمد الرُّوبيو، ذلك السابح في نِعَمِ حانة ماروخا، طفل قوي البنية، كثيرا ما تعاركنا معه- نحن أقرانه من أبناء الحيِّ- لأتفه الأسباب. كان محمد أبيض البشرة، أشقر وسيما، مرصوص البنيان، مع ميل واضح إلى القصر، ولم يكن طبعه عدوانيا، بل كان على العكس يتودد إلى الجميع، ولا يبخل علينا بما لديه من الحلوى التي كان يأتي بها من عند ماروخا. ومع ذلك لم يكن له أصدقاء بمعنى الكلمة، وهذا معناه أن يفتقد المرء إلى حماية وسند يأتيانه من إخوته أو ذويه، لذلك وجدتني أتعاطف معه، وإن كنت أضطر إلى النيل منه أحيانا ضمن ما يقتضيه التآزر بين عصابة الأولاد ...

كانت ماروخا تحب الروبيو، وتترك الطَّكا، بين الفينة والأخرى، كي تأتي للاطمئنان على أحواله، بينما هو يشاركنا لعب كرة القدم، في منحدر يفضي إلى عقبة الحَلُّوف، الذي يفصل عمارة مُوهَامَا عن شركة التبغ" طَابَاكِيرَا"، لأنها كانت على معرفة بعزلة محمد الروبيو، وبطباع الصغار الذي يشكلون أحلافا، وكانت لا تفتأ تنبِّهنا إلى ضرورة أن نتحاب فيما بيننا عوض أن نتخاصم.

محمد الروبيو كان يتضايق من حضورها، ربما لأنه كان يرفض أن يبدو مدللا أكثر من اللزوم أمام أقرانه بالحي، الذين كانوا يقضون وقتا طويلا هنالك دون أن يسأل عنهم أحد من ذويهم. لذلك كان محمد لا يتورع عن الفرار بعيدا فور رؤية ماروخا وهي تقترب من ميدان اللعب. كان يقصد حظيرة الإسباني بَرْطُولُو الواقعة خلف " طاباكيرا"، التي كان من بين حيواناتها الخنزير؛ الشهير بين المغاربة بالحلُّوف، والأرجح أن تكون " عقبة الحلوف" الشهيرة بهذه التسمية في تطوان قد أخذت اسمها نسبةً إلى حظيرة بارطولو. لم يكن تواري الروبيو عن ناظر ماروخا يستغرق وقتا طويلا، إذ كان يعود إلى الظهور سريعا فور انصرافها، يعود وهو يسب بالإسبانية معربا عن سخطه، بينما هي تعود أدراجها إلى الطَّكا وقد اطمأنت إلى أن طفلها بخير.

- لماذا تفرُّ منها كلما جاءت تتفقد أحوالك؟

- لأن خوفها عليَّ يغضبني، وكلامها السخيف يزعجني.

- مهما كان فهي لا تضربك- قلتُ له دون أن أنظر إليه-.

- إنها تشعرني بأني مختلف عنكم جميعا.

- ربما لأنك الابن الوحيد داخل الأسرة.

فجأة اختفى الروبيو عن الحيِّ، كانت لنا مباريات في كرة القدم لم يحضرها، هزمْنا فيها أطفال طاباكيرا في عقر ميدانهم، وقد حاول خصومنا تبرير الهزائم بغياب حارسهم الرسمي الروبيو. مَنْ سأل ماروخا عن الروبيو لم يظفر بطائل، وقبل اختفائه بأربع سنوات كان الموتُ قد غيَّبَ كالُّو، واختفت للا فاطمة عن الأنظار، مثلما اندثرت حظيرة بارطولو هي الأخرى، عالمٌ برمَّته اختفى إلا من الذاكرة. لكنَّ الطَّكا ظلَّتْ على عهدها، يأتي إليها عمَّال لابالينسيانا الذين غدوا يُنْعتون بعمَّال الخطوط الوطنية ثم عمال شركة السِّتْيام، بعد كارثة مَغْرَبَةِ الشركات، وما نجم عنها من رحيل مُعظم الإسبان، النسبة اختلفتْ، لكنَّ رواد الحانة ظلُّوا هم أنفسهم، وظلَّت رائحة المازة كعهدها تبعث في النفس الرغبة في شرب جعة باردة، مما رسخ لديَّ أن ماروخا هي التي كانت تُعِدُّ المازة.

لماذا عادت بي الذاكرة إلى ذكرياتي السحيقة عن الحي، هل هو المرور بشارع النخيل، قادِما من جهة رياض العشاق، وعثوري على الطَّكا وقد غدتْ شيئا آخر؟ هل هي جلسة السمر مع أحد الجيران الذي كان من رُوَّاد المَحلّ؟ هل هو الحنين إلى زمن الطفولة التي شغلت ماروخا حيِّزا ضمنه، ماروخا التي رحلت عن العالم، والتي أطلعني الجار على أنها كانت مغربية بربرية اسمُها الحقيقي أمينة، تزوَّجتْ كالُّو الإسباني، واختارت لنفسها التحدُّث بالإسبانية والريفيَّة البربرية لا غير، وأنَّ الوشمَ الذي كان بذقْنها يحيل إلى أصلها، وأنها لم تُنجب من كالُّو ولدا، لكنْ بعد وفاتها بأسبوع برز محمد الروبيو صباحا وهو يتأرجح مشنوقا في الشجرة الهائلة المقابلة للطَّكا.

( غشت 2007)جريدة القدس العربي