viernes, 14 de septiembre de 2007

أجمل غريق في الدنيا/ غابرييل غارثيَّا ماركيث

أجمل غريق في الدنيا/ غابرييل غارثيَّا ماركيث
10 سبتمبر 2007
ترجمة: مزوار الإدريسي
توهَّمَ الأطفالُ الأوائلُ الذين شاهدوا الرَّبْوةَ الغامضةَ والكتومَ تدنو عبر البحرِ أنها مركَبُ عَدُوٍّ، لكنَّهم تَبَيَّنوا من بعدُ أنه لا يرفَعُ أعلاما وصاريةً، وخمَّنُوا أنْ تكونَ حُوتًا. لكنها لما جنَحَتْ إلى الشاطئ نزعوا عنها أكوامَ الطحالب، وخيوطَ قناديلِ البحرِ، وبقايا السمكِ الصغير، ومظاهرَ الغَرَقِ التي تظْهَرُ عليْها، عند ذلك فقط اكتشفوا أنه غريقٌ.ظلَّ الصغارُ يلعبونَ بها طيلة المساء، دافنينَ إياها تارةً، ونابشينَ عنها الرمالَ تارةً أخرى، حتى رآهم أحدٌ ما صدفةً، وأطلقَ صرخةَ الإنذار في القرية. لاحظ الرجالُ الذين حملوه حتى البيت الأقرب أنه يَزِنُ أكثرَ من كلِّ الأمواتِ المعروفينَ، فَثِقَلُه يكادُ يضارع ثقل حصان، وقالوا فيما بينهم ربَّما يُرَدُّ الأمرُ إلى مكوثه وقتا مديدا على غير هدى، وأن الماء تسرَّبَ داخل عظامه. ولمَّا مدَّدوه أَرْضًا رأوا أنه كان أعظمَ بنية من كل الرجال، إذ بالكادِ يتسع في البيت، لكنَّهم رجَّحوا أن تكونَ القدرة على مواصلة النمو بعد الموتِ من طبيعة بعض الغرقى. كانتْ له رائحةُ البحر، وكانَ الشكلُ وحدَه يسمحُ بافتراض أنها جثَّة كائنٍ بشريٍّ، لأن بشرته كانت مكسوَّةً بقشرة سمَك اللَّشَكِ وبالوَحَل.لم يكونوا لِيُنَظِّفوا وجْهَه كي يعرفوا أنه كان ميِّتا غريبا عنهم. لم يكن عدد البيوت يتعدى عشرين بيتا من ألواح الخشب، لها صحونٌ من حجارة؛ لا ورودَ فيها، مبعثرة في طرف رأسٍ بحري مقفر. كانت المساحة الأرضية جد ضئيلة، حتى إن الأمهات كنَّ يمشينَ دوْما متخوِّفات أن تذهبَ الريحُ بالأبناء، وأن الأمواتَ القلائلَ الذين كانت الأعوام تحصدهم كانوا يُجْبَرونَ على القذف بهم في الأجراف. لكن البحر كان وديعا ومبَذِّرا، وكل الرجال كانوا يُحْملون في سبعة مراكب. ولذلك فإنهم حينما عثروا على الغريق اكتفى بعضهم بالنظر إلى بعض كي ينتبهوا إلى أن عددهم كامل.لم يخرجوا للعمل في البحر تلك الليلة. وبينما كان الرجال يتثَبَّتون من أن لا أحدَ ينقُصُ في القرى القريبة، بَقِيَتِ النساءُ يعْتنين بالغريق. أزَحْنَ عنه الوَحَلَ بخيوطِ الحلفاء، وصفَّيْنَ شعَره من الأشواكِ البحرية، وكَشَطْنَ بقايا اللَّشَكِ بالقشورٍ القاسية لبعض الأسماك. وبالقدر الذي كُنَّ يفعلْنَ ذلك كُنَّ يلاحظن أن نباتاته تعود لمحيطاتٍ قصيَّة، ولمياهٍ عميقة، وأنَّ ثيابه كانتْ ممزَّقة إرْبا إربا، كأنه أبحر ما بين متاهات مرجانية. لاحظْنَ كذلك أنه تحمَّل الموتَ بشموخ، إذ لم تكن له الهيئة المتفرِّدة لغرْقى البحر الآخرين، ولا المنظر القذِر والمحتاج لغرقى الأنهار أيضا. لكن، حين انتهيْنَ من تنظيفه فقط أَدْرَكْنَ أيَّ نوعٍ من الرجالِ يكونُه، عند ذلك وقفْنَ مَشْدوهاتٍ. لم يَكُنْ أطوَلَهم فحسبُ، والأقوى، والأفحلَ، والأفضل لباسا هذا الذي لم يَرَيْنَ نظيرا له أبدا، وإنما كذلك لعدَمِ سَعَةِ صورتِهِ في خيالِهِنَّ لَمَّا كُنَّ ينظُرْنَهُ.لم يعثرن في القرية على سرير كبير كفايةً كي يُمَدِّدْنه، ولا على طاولة قوية كفاية كي يسهرن على خدمته. لم تلائمه سراويل الحفلاتِ التي للرجال الأكثر طولا، ولا قُمْصان الأَحَدِ التي لأكثرهم جسامةً، ولا أحذية أقومِهم. ومفتوناتٍ بانعدامِ نظيره وبسحره قرَّرتِ النسوةُ حينئذ أنْ يخِطْنَ له سروالا بقطعة شراعٍ جيِّد، وقميصا من خيْطِ عروس، كي يُمْكِنَهُ أنْ يواصلَ الموتَ بكرامة. وبينما كنَّ مُتَحَلِّقاتٍ يخِطْنَ وهنَّ يتأمَّلْنَ الجثمانَ بين غرْزَة وغرزة، بدا لهُنَّ أنَّ الريح لم تكن عنودا أبدا، ولا بحرَ الكاريبي لم يكن أبدا أكثر قلقا كما كان عليه تلك الليلة، وافترضن أن تلك التغييرات لها صلةٌ ما بالميِّت. فكَّرن أنه لو كانَ ذلك الرجل الرائع قد عاش في القرية لكانتْ لِبَيْتِه الأبوابُ الأوسع، والسقف الأعلى، والبناء الأرسخ، ولكان هيكلُ سريرِه من أضلاع أساسية لها مساميرُ من حديد، ولكانت زوجته أسعدَ النساء. تصوَّرْنَ أنه لكانتْ له كثيرٌ من السلطة لِحَدِّ إخراجِ الأسماك من البحر بالنداء عليها بأسمائها فحسبُ، وأنه لكان اجتهد كثيرا في العمل لحدِّ أنْ يُفَجِّرَ ينابيعَ بين أشدِّ الحجارة جفافا، وأنه لأمكنَه أنْ يَبْذُرَ زهورا في الأجراف. قارنَّه سِرًّا بأزواجهِنَّ، وفكَّرْنَ أنهمْ لن يستطيعوا طيلةَ حياتهم فِعْلَ ما يكونُ ذلك الغريق قادرا على فعْلِه في ليلةٍ واحدة، وانتهيْنَ إلى نبْذِهم في سريرَتِهِنَّ مثل أقْذَر وأحقر كائنات الأرض. كُنَّ يسِرْنَ تائهاتٍ عبر متاهاتِ التَّخَيُّل تلك، حين قالت المرأةُ الكبرى سِنًّا- ولأنها الكبرى سنا، فقد تأمَّلت الغريق بِهَوًى أقلَّ قدْرا فيه مِنَ الشَّفقة- مُتَنَهِّدةً:- سَحْنَتُهُ تدلُّ على أنَّ اسمَه إسْطِبَنْ.كانت حقيقة. لقد كفَتِ الأغلبيَّةَ أنْ ينظُرْنَ إليه مرَّة أخرى كيْ يفهمْن أن لا اسمَ يمكنُ أن يكونَ له سوى ذلك. بينما اللواتي كُنَّ أكثر عنادا، وهن الفتيات، فقد حافظن على وهم أنَّهُ إنْ أُلْبِسَ ومُدَّ بين الزهور منتَعِلا حذاءيْن مبَرْنَقَيْن لَأَمْكَنَ تسْمِيَتُه لاوْطَارُو. لكنَّه كان وهما عديم الجدوى. فقد حدثَ أنَّ القماشَ لمْ يكْفِ، فَفُصِّل السروالُ سيِّئا، وكانت خياطته أسوأ، بحيثُ أصبحَ ضيِّقا، ثم إن القوَّة الخفيَّة لقلبِه فجَّرَتْ أزرارَ القميص. وبعد منتصف الليل ضَعُفَ صفيرُ الريح، وهدأ البحرُ مع هدوء جوِّ الأربعاء. لقد قضى على آخر الشكوك: كان اسمُه إسْطِبَنْ.لم تستطع النسوة اللواتي ألْبَسْنَهُ، واللواتي مشطن شعَره، واللواتي قلَّمن أظفاره، واللواتي كشطن لحيتَه أنْ يكْبَحْنَ ارتجاجَ شفقة في صدورهن لمَّا كان عليهنَّ أن يرضَخْنَ لترْكِه مطروحا أرضا. حينئذ أدْرَكْن كم كانَ تَعيسا بذلك الجسد الجسيم الذي ظلَّ يزعجُه حتى بعد أنْ مات. لقد رأَيْنه مُدانًا في حياته أنْ يمُرَّ خلسةً عبر الأبواب، أنْ يشُجَّ رأسَه في العوارض، أن يمكث واقفا أثناء الزيارات، دون أن يعرف ما يفعل بيديْه اللدنتين والورديَّتيْن اللتيْن للسرطانِ أسْود الملاقط، بينما تبحث ربة البيت عن الكرسي الأصلب، وتتوسَّل إليه ميِّتة من الخوف؛ اِجلسْ هنا يا إسْطِبَن، تفضَّلْ، بينما هو يستند إلى الجدار، مبتسما، لا تكترثي ياسيدتي، إنني هكذا في وضع جيد، الكعبِيَّتانِ في اللحم الحيِّ، والظَّهْرُ قد سُلِقَ من فرط تكرار الوضع ذاته في كل الزيارات، لا تكترثي يا سيدتي، إنني هكذا في وضع جيد، فقط ليَلَّا يمرَّ بتجربة الخجل من تخريب الكرسي، وربما دون أن يكون قد عرف أبدا من يقولون له لا تذهبْ يا إسْطِبَن، انتظر حتى يَغْلِيَ البُنُّ، كانوا هم أنفسُهم الذين كانوا يهمسون مِنْ بَعْدُ؛ ها قد ذهبَ الغبيُّ الكبيرُ، ما أجمل أن يمضيَ الأبله الفاتن. هذا ما فكَّرت به النسوةُ، وهنَّ قبالة الجثمان قُبَيْلَ الصبح بقليل.وفي وقت لاحق، حين غطَّين وجهه بمنديل كي لا يزعجه النور، رأيْنَهُ موغلا في الموتِ إلى الأبد، أعْزَلَ، شديدَ الشبه برجالهنَّ، حتى تفتَّقت صدوع الدموع الأولى في قلوبهن. كانت إحدى الفتيات الصُّغريات مَنْ طفقت تشهق. الأخرياتُ، وقد تشجَّعن فيما بينهن، انتقلن من التنهد إلى النواح، وكلما كن يشهقن أكثر كنَّ يشعرن برغبة أكثر في البكاء، لأن الغريق غدا في أعيُنِهن أكثر استحقاقا لاسم إسْطِبَن، حتى إنهن بكيْنه كثيرا على أنه الإنسان الأكثر حرمانا على الأرض، والأشدُّ وداعةً، والأكثرُ حبًّا للمعروف، إسْطِبَنْ المسكين. وهكذا، لما قفل الرجال عائدين بنبإ أن الغريق لم يكن من القرى المجاورة كذلك، شعرتِ النسوة بفراغ ملؤه الاغتباط، وهن يبكين.- الحمد لله- تنهَّدْن-: إنه لَنا!اعتقد الرجالُ أن تلكَ المشاهد المتصنَّعة لم تكن أكثر من طيش نساء. لقد كانوا مرهقين من التحقيقات المُلتوية بالليل، الشيءُ الوحيد الذي كانوا يودُّونه؛ هو أن يزيحوا بضربة لازب عائق الرَّجل الدَّخيل، قبل تُحْرق الشمس الشرسة لذلك اليوم الجافِّ، والذي لا ريحَ تهبُّ فيه. ارتجلوا صُنْعَ مَحْمَلٍ من بقايا صوارٍ وعوارض، وربطوها بمقصورات عالية، كي تقاومَ ثقلَ الجسدِ حتى الوصول إلى الأجراف.أحَبُّوا أنْ يُقَيِّدوا كَعْبيْهِ بمرساةِ السُّفن التجاريَّة، كي يُغَوِّرَ في البحار العميقة دون تعثُّر، حيث الأسماكُ عمياءُ، والغوَّاصونَ يموتونَ حنينا، بالطريقة التي تحول دون التيَّارات المعاكسة وإرجاعه إلى الضفة، كما حدث مع أجسادٍ أخرى. لكن بالقدر الذي كانوا يستعجلون، بِقَدرِ ما كانت أشياء تحدث للنساء كي يُبَدِّدْنَ الوقتَ، كنَّ يتنقَّلْنَ كالدجاجات المفزوعات وهن ينقُرن تمائمَ البحر في الصناديق الكبيرة، بعضُهنَّ يُزْعجنَ هنا، لأنهن كُنَّ يُرِدْنَ أن يُلْبِسْنَهُ كَتِفِيَّةَ الريحِ الطيِّبة، وأُخْريات يضايقْنَ هنالك، كيْ يضعْنَ له سِوارَ توجيه، وفي الأخير من كثرة ترديد عبارات مثل؛ ابتعدي عن هنا يا امرأة، كوني حيث لا تزعجين، انتبهي فقد أوشكتِ أن تسقطيني على الميِّت، لعبَتِ الريبةُ بعقولِ الرجال، فشرعوا يتأففون من كثرة قضبان حَديد الْمَذْبَحِ الأعظم لأجل غريب، إنْ كانتِ المسامير الكثيرةُ والجدران التي سيحملُها معه فوق ذلك سَيَلُوكُها سمكُ القرشِ، لكنَّهُن واصَلْنَ حشْوَ رفاتِهِ بالبضاعة، وهنَّ يَرِدْنَ ويصْدُرْنَ متعثِّراتٍ، بينما كان يضيعُ منهن في التنهُّد ما لم يضعْ منهن مع الدموع، هكذا انتهى الرجالُ إلى إلقاء كلامٍ على عواهنِه، مِنْ قبيلِ منذُ متى كان هذا الصخبُ لأجلِ ميِّتٍ ساقَهُ التَّيَّار، غريقٍ لا أهلَ له، جثَّةٍ خراء. إحدى النساء، وقد عذَّبَتْها كثرةُ التَّلَكُّؤِ أزاحَتْ عن الجثَّةِ منديلَ الوجه، فانحبستْ أنفاسُ الرجالِ هم أيضا.كان إسْطِبَن. ولم يكن من داعٍ لإعادة الاسمِ كي يميِّزوه. لو كانوا قد سمَّوْه السيد وَالْتِر رَالِيغ، ربما، وحتى هم أيضا كانوا سيتأثرون بنبرته الأمريكية، لكانتْ على كتفه بَبَّغاؤه، وعلى الأخرى طَبَنْجَته لِقَتْلِ أكَلَةِ الآدميِّين، لكنَّ إسْطِبَن لم يكنْ باستطاعته إلا أنْ يكونَ فريدا في العالَمِ، وهنالك كان مَرْمِيًّا مثلَ سَمَكِ الشَّابَلِ، دونَ جَوْرَبَيْنِ، بسروال طفلٍ سُباعيٍّ، وهذه الأظافر الحَصَويَّة التي لا يمكن أن يقلِّمها إلا سكين. لقد كان كافيا أن يكشفوا عن وجهه المنديل كي ينتبهوا إلى أنه كان خجلا من أنه لا يتحمَّلُ مسؤوليةَ ضخامةِ جسده، وطأةَ ثقله، وفتنةَ جماله، وأنه لو كان يعلَمُ أنَّ ذلك سوف يحدُث لكان اختار مكانا آخر أكثرَ سِرِّيَّةً كيْ يغرَق فيه، أتكلَّمُ بجدِّيَّةٍ، لكُنْتُ أنا ذاتي قدْ قيَّدْتُ مرساةَ سفينةٍ بعنقي، ولكنتُ تعثَّرْتُ مثل مَنْ لا يحبُّ الشيءَ في الأجراف، كي لا أكونَ الآن مزعِجا بِمَيِّتِ الأربعاء هذا، وكما تقولون، كي لا تزعجوا أحدا بهذا الميت القَذِر، الذي لا علاقةَ له بي. كانتْ في صيغة وجوده كثير من الحقيقة، حتى إن الرجال الأكثر ارتيابا، الذين شعروا بليالي البحرِ مريرةً خوْفا من أنْ تتعَبَ نساؤُهم من أنْ يحْلُمْنَ معهم، كي يحلُمن بالغرقى، حتى أولئك، وآخرين أصلب ارْتَجَّ نُخاعُهم العظميُّ بصراحةِ إسْطِبَن.هكذا إذن، نظَّموا له الجنازةَ الأروع التي لا يمكنُ أنْ تُتَصَوَّرَ لغريق لقيط. بعض اللواتي ذهبن إلى القرى المجاورة بحثا عن الزهور عُدْنَ رفقةَ نسوة أخريات، لم يُصدِّقْنَ ما حكيْنَ لهن، وهؤلاء ذهبن بحثا عن مزيد من الزهور، لمَّا رأيْنَ الميِّت، وأتيْن بالكثير والكثير، حتى إن المشي كان عسيرا من كثرة الزهور، ومن كثرة الخلق.لقد آلَمهم في الساعة الأخيرة أنْ يردُّوه إلى الماء يتيما، فاختاروا له أبا وأمًّا من بين أفضل الحاضرين، وآخرون اتخذوا أنفُسَهم إخوةً له وأعماما وأبناءَ عمٍّ، وهكذا، وبوساطته انتهى كلُّ سكانِ القرية أقرباء، تربطهم وشائجُ عبْرَهُ. بعضُ البحارةُ الذين سمعوا النشيجَ من بعيد اختلَط عليهم أمرُ الوِجهة، وعُرِفَ من أحدهم أنه قد ربطَ ذاتَه إلى الصاري الأكبر في السفينة، وقد تذكَّر الخرافاتِ القديمة للهنَّادات. وبينما كانوا يتخاصمون بصدد امتياز حَمْلِهِ على الأكتافِ عبر منحدر الأجراف الشديد الميل، أدرك الرجالُ والنساءُ للمرة الأولى حزنَ شوارعهم، وجدْبَ فناءاتهم، وضيق أحزانهم، في مقابل ألق وفتنةِ غريقِهم.أطلقوه دون مرساة، كي يمكنه أن يعود لو يشاء، متى يشاء. جميعهم حبسوا أنفاسَهم خلال أجزاء القرون التي تأخَّرها سقوطُ الجسد حتى الهاوية. لم يكونوا بحاجة كي ينظر بعض منهم إلى بعض، وكي ينتبهوا إلى أنهم الآن ليسوا جميعا، وأنهم لن يعودوا إلى أنْ يكونوا جميعا أبدا. لكنهم عرفوا أيضا أن كل شيء سيكون مختلفا منذ ذلك الوقت، وأن بيوتهم ستكون لها الأبواب الأوسع، والسقوف الأعلى، والأبنية الأرسخ، كي يمكنَ لذكرى إسْطِبَن أن تمضيَ عبر كل الأرجاء، دون أن تصطدم بالعوارض، وأن لا يجرؤَ أحدٌ على الهمس بأنَّ الغبيَّ الكبير قد ماتَ، للأسف، ها قد مات المعتوه الفاتن، لأنهم سيطلون الواجهاتِ بألوانٍ جذلةٍ كيْ يخلِّدوا ذكرى إسْطِبَن، وكانوا سيحطِّمون عَمُودَهم الفقري مُنَقِّبينَ عن الينابيع في الحجارة، وبغرسِ الزهور في الأجراف، كي يمكنَ لِرُكَّاب السفن الكبيرة في سنواتِ السَّعْد أنْ يستفيقوا ملفوحين برائحة حدائقَ في أعالي البحار، وأنْ يكونَ على القبطان أنْ ينزلَ من مقصورته باللباس الرسمي، وبأسطرلابه، وبنجمه القطبي وسلكِ نياشينه الحربية، ومشيرا إلى ربوة الورد في مدى الكاريبي، سيقول بأربع لغاتٍ، اُنظروا هنالك، حيث الريحُ الآن جدُّ وديعةٍ حدَّ أنها ظلَّتْ نائمةً تحتَ الأسرَّةِ، هنالك، تلمع الشمس بشدة، حتى إن عبَّاد الشمس لا يدري إلى أين يلتفت، أجل، إنها قرية إسْطِبَن.