martes, 29 de abril de 2008

عبد اللطيف شهبون.. مانح الشذى


مانح الشذى
عبداللطيف شهبون


لم تخل جلسة من جلساتنا الإخوانية في منزل فقيدنا العزيز المرحوم الحاج محمد العربي الخنوس بطنجة من إمتاع و مؤانسة.. حتى كادت كل جلسة تنفرد بموضوع ثقافي أو سياسي أو اجتماعي أو شعري..
منذ سبع عشرة سنة- و نحن جلوس بمنزل فقيدنا الحاج العربي- طرح صديقنا الأستاذ إدريس الجبروني ملاحظات نقدية حول خصوصيات شعر أمريكا اللاتينية متوقفا عند تجربة خوسي مارتي (1853-1859), الذي تعرفنا إليه من خلال ما كنا نقرأه في العقد السابع من القرن الماضي من مجلات و جرائد كوبية .. و من كتب خاصة أعماله الكاملة التي كانت توزعها سفارة كوبا دعما لثقافة اليسار.
أنهينا سمرنا الثقافي في منزل المرحوم الحاج العربي, و في اليوم الموالي استثمرت ما دار بيننا من نقاش, فكتبت وقتئذ مقالة أعيد نشرها الآن استذكارا للحاج العربي الخنوس الإنسان الطيب النبيل الكريم..
الذي فتح لنا بيته و قلبه.. و كانت له علينا أفضال..

في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ارتفع الفن و السياسة في أمريكا صوت خوسي مرتي..؛ شاعر, ناثر, ثوري في الفن و السياسة.. و صاحب رؤية مستقبلية للعالم مكنته من جس نبض فضاءات شعرية غير مستكشفة, و ارتياد آفاق بعيدة لتجربة جماعية منقلبة نحو الداخل ..و معبر عنها بمثل هذه الشهادة الفنية الذاتية:
أنا آت من كل جهات..
ذاهب نحو كل جهات..
أنا فن بين الفنون..
و بين الجبال أنا جبل..
هذا الشاعر/ الساحر التق كنه الأزمة الاجتماعية في زمنه ببعد نظر و حدس مصيب.. فكانت تأملاته مدهشة مصاغة في تراكيب متضادة و غريبة.. تتعايش فيها تفكيكات إبستيمولوجية, و اختراقات لسانية, و تجسيدات نفسية ملمحها الألم و العزلة, و التأمل و الاستنباط الذاتيان المبدعان المتحرران إيديولوجيا و المؤمنان بإنسانية مثالية رومانسية.. في ثوب لغوي يحتفظ بأهم عناصر التقاليد الأدبية للغة الإسبانية: معجما و تركيبا و إقاعا..
و إن الدراسة المقارنة لأشعار خوسيه مرتي بأشعار معاصريه من أمثال:ما نويل غوتييرس تأخيرا, و خوسي أسونثيو سيلفا, و خوليان دلسكال, و روبين دريو لتؤكد و تكشف أنه يقف بمفرده شاهدا ثائرا..
في تراث هذا الشاعر و في حياته نلمس ذلك الربط الجدلي بين الحياة و الفن, لدرجة يصعب معها رسم حدود فاصلة بينهما رجل الفعل و العمل.. و بين الفنان..ثم إن لهذا الارتباط الوثيق صدى في أفكاره و تنظيرا ته.. فقد كان يقول:
عندما لا تصلح اللغة لأن تكون لباسا للشعور النبيل و الفكرة الخالدة فهي مجرد دخان..
إن القصيدة الشعرية يجب أن يكون لها جذر في الأرض و أساس فعل واقعي ملموس..
ليس الشاعر من يجعل النملة تمشي, بل هو ذاك الذي يمنح الشذى, و يرسل الأنوار, و ينادي إلى النصر و إلى الإيمان بالكونية.

نفهمكم سامحونا
في حديث عابر مع الأصدقاء: مزوار الإدريسي, عبد الجليل بادو, أحمد هاشم الريسوني عبرت لهم عن إعجابي بتلك الرسالة التي كتبها غبرييل غرسيا مركيز(*) في ظرفه الصحي الحرج و وجهها إلى أصفيائه..
قال مزوار: تلك الرسالة مشكوك في نسبتها إليه..
قلت له: حتىو لم ينشر رأيه في واقعة الانتحال.. فالأولى أن ندع الرسالة تمر حتى تصل إلى و لو سلمان بوضعها الإنتحالي.. فمعمارها سامق بمعان.. و أحلام.. و ترجمان أشواق..
فعلق عبد الجليل: غبريل مازال حيا, فصولها و غاياتها..
استوقفني في الرسالة المذكورة توجيه غبرييل لما ينبغي أن تكون عليه حياة الناس:
< لو وهبني الله حياة أخرى.. لفكرت في كل ما سأقوله .. و لمنحت الأشياء قيمتها.. و لحملت كثيرا.. و لا رتديت ملابس بسيطة, واستلقيت عاريا من جسدي و من روحي.. و لبرهنت للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عاشقا متى شاخوا.. سأعلهم أن الموت بفعل النسيان لا بسبب السن..... تعلمت منكم كثيرا.., تعلمت أن الجميع يريد أن يعيش في القمة غير مدرك أن سر السعادة كامن في كيفية الهبوط من فوق.. تعلمت أن الإنسان يحق له النظر- إلى الآخر- من فوق في حالة واحدة فقط, هي حالة توجب مساعدة ذلك الآخر...>
واستوقفني في رسالة مركيز حديث مخصوص دعاني إلى ربطه بعرفانية محي الدين ابن عربي و جلال الدين الرومي.
يقول مركيز:.. لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراك فيها نائما لأخذتك بين ذراعي و لصليت حتى يجعلني الله حارسا لروحك.. لو كنت أعرف أنها دقائقي الأخيرة معك لقلت: أحبك, و لتجاهلت- بخجل-أنك تعرفين ذلك.>
يؤكد مركيز على أهمية صرح الحب و ضرورة الحفاظ عليه.. فيحيلني عاى رسالة كتبها مولانا جلال الدين الرومي برغبة فائضة إلى ابنه "سلطان ولد" بشأن بنت صلاح الدين زركوب و التي تزوج بها.. حاثا إياه على العيش مشغوفا بمن في خلده, لأن من أحب شخصا, و أنس به, و سكن إليه, فمحبته في حقيقة الأمر لله تعالى, ذلك أن جميع الجمالات الأرضية ليست سوى انعكاسا لجمال السماء و الجمال الإلاهي..
و هذه المعاني يؤكد عليها الكبريت الأحمر محي الدين ابن عربي الذي يعتبر الحب الإنساني منهاجا للحب الرباني.. و بواسطته يعرج الإنسان من الأرض إلى السماء..
و بما أن مبعث الحب سكينة و محركه شوق.. يقول مركيز:
.. احفظوا ا قرباء كم ممن تحبون.. خذوا وقتا كافيا كي تقولوا لهم: نفهمكم سامحونا...